تقديم العقل على النقل

1. أنه من المقرر عند أهل النظر – ومنهم الأشاعرة – أن أسباب العلم ثلاثة : العقل ، والحواس السليمة ، والخبر الصادق . والخبر الصادق هو خبر الله تعالى ، وخبر رسوله ، وخبر أهل التواتر ، والخبر المحتف بالقرائن . فمصدر التلقي عند الأشاعرة ليس هو العقل فقط، بل هو الخبر الصادق والعقل. قال الغزالي: «وأهل النظر في هذا العلم يتمسكون أولا بآيات الله تعالى من القرآن، ثم بأخبار الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ثم بالدلائل العقلية والبراهين القياسية» ، وكيف يكون مصدر التلقي عندهم هو العقل وحده ومن مذهبهم أنه لا مجال للعقل في التحسين والتقبيح ، وأنه لا حسن إلا ما حسنه الشرع ولا قبيح إلا ما قبحه الشرع.

2. أن الإسلام هو دين النقل المؤيد بالعقل ، ومن أجل ذلك كان من عادة الله تعالى في كتابه المبين عندما يبين عقيدة من عقائد الإسلام أن يقرنها بذكر دليلها العقلي أو يشير إلى هذا الدليل .

3. أن التعارض لا يتصور بين العقل والنص القطعي الثبوت القطعي الدلالة ، لامتناع التعارض بين يقينيين ، وإنما يتصور التعارض بين العقل والنص غير قطعي الثبوت أو غير قطعي الدلالة ، كما يتصور التعارض بين هذين النوعين من النصوص ، فالذي قرره الأشاعرة من تقديم العقل على النقل مفروض فيما إذا تعارض ما هو ثابت بالعقل ثبوتا قطعيا للنص غير القطعي الثبوت أو غير قطعي الدلالة .

4. أن أهم أصول العقيدة الإسلامية لا يصح إثباتها إلا بالعقل ، وإثباتها بالدلائل النقلية مستلزم للدور المحال ؛ وذلك مثل إثبات وجود الله تعالى وعلمه وقدرته ومشيئته وغيرها مما يتوقف عليه ثبوت الوحي . فلأن ثبوت النقل موقوف على ثبوت الوحي، وثبوت الوحي موقوف على ثبوتها لا يصح الاستدلال عليها بالنقل . والاستدلال عليها بالنقل موجب لتقدم الشيء على نفسه وهو الدور المحال.وكذلك النبوة إنما يتوقف ثبوتها على المعجزة الدالة عليه بطريق العقل، فكان العقل على هذا أصلا للنقل وشاهدا على صدقه، فإهمال العقل إذا كانت دلالته قطعية، ورد مقتضاه موجب لإنهيار أصل النقل، وللطعن في شاهده الذي لم يثبت إلا به، فيكون هذا إبطالا للنقل. والقاعدة -كما قلنا- مفروضة فيما إذا تعارض ما هو ثابت بالعقل ثبوتا قطعيا لظاهر نص غير قطعي الثبوت أو غير قطعي الدلالة، وأما النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة فلا يتصور التعارض بينه وبين العقل.
فالقاعدة التي قررها الأشاعرة قاعدة ذهبية لا ينبغي أن يختلف فيها اثنان، لكنه مما ينبغي التنبيه عليه أيضا أن هذه القاعدة قد أسيء استخدامها من قبل بعض المتكلمين ولا سيما المعتزلة منهم، فردوا بها كثيرا من النصوص المتفق على صحتها من السنة، وأولوا بسببها كثيرا من الآيات، وأخرجوها عن ظواهرها، وليس ذلك إلا لمخالفة هذه النصوص وهذه الظواهر لما أدى إليه اجتهادهم العقلي المتأثر بالفلسفة وبعقائده الفاسدة، وليس ذلك لمخالفتها للعقل القطعي الدلالة الذي لا يقبل النقض.

فظهر بهذا التحقيق أن الأشاعرة قد استعملوا العقل في المجال الذي لا يجوز أن يستعمل فيه إلا العقل، ويكون استعمال النقل فيه موجبا للدور والمحال،كمايكون اهمال العقل فيه موجبا لإبطال العقل والنقل جميعا، فهم قد استعملوا العقل في مجاله الذي يجب أن يستعمل فيه، وهذه هي الحكمة، “يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا

5. أن تقديم العقل على النقل إذا عارض العقل النقل، وتأويل النقل بناء على هذا التعارض أورَدَّهُ ليس شيئا انفرد به الأشاعرة بل هو من مقررات العقول؛ وقد قرره أصحاب العلوم المختلفة في علومهم، فمثلا التأويلات التي أول بها السلف جملة من نصوص الكتاب والسنة كثير منها مبنية على مخالفة ظواهر هذه النصوص للعقل، وحتى المحدثون الذين قد يتخيل أنهم أبعد الناس عن هذا التقديم قد قرروا هذا التقديم في مؤلفاتهم وجعلوه من أصولهم، قال الخطيب البغدادي: باب القول فيما يرد به خبر الواحد، ….: وإذا روى الثقة المأمون خبرا متصل الإسناد رد بأمور:

أحدها : أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه؛ لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول، وأما بخلاف العقول فلا.

والثاني : أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم انه لا أصل له أو منسوخ.

والثالث : أن يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له، انتهى .

والشيخ ابن تيمية أيضا قال هذه القاعدة التي قررها الأشاعرة . قال في الرسالة التدمرية في معرض الإستدلال على أمر من أمور العقيدة : “والسمع قد دل عليه، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم” .

المصدر : كتاب منهج الأشاعرة في العقيدة بين الحقائق والأوهام

أضف تعليق

  • الحقوق محفوظة

    Creative Commons License
  • ارشيف المدونة

  • اقسام المدونة